من رابا نوي (جزيرة الفصح) إلى الدوحة – تأملات مهيريو رابو في الوطن والثقافة والحياة في قطر
2025/08/26
الأعوام الثقافية
false
2025/08/26
ترعرعت ماهيرو في إحدى أكثر الجزر عزلة في العالم، فشبّت غارقة في تقاليد رابا نوي ولغتها وروحها الجماعية. وبعد أن استقرّت في قطر منذ ما يقارب عقدًا من الزمن، تنقل ماهيرو ذلك الإرث إلى حياتها العملية كمدرّسة للغة الإسبانية، وأخصائية في علم النفس التربوي وصانعة محتوى.
ما بين بناء حياتها الأسرية في الدوحة ومشاركتها في تغطية كأس العالم عبر المنصة الإذاعية هولا قطر باللغة الإسبانية، تجسّد مسيرة ميهيرو قصة ارتباط وثيق بالثقافة.
تستعيد ميهيرو في هذا اللقاء التأملي ذكريات طفولتها ورحلة انتقالها إلى قطر، والتجارب التي شكلت إحساسها بالانتماء. كما تعبّر عن تطلعاتها في توطيد الصلات بين المجتمعات في أميركا اللاتينية وقطر في هذا العام التاريخي.
كانت نشأتي في رابا نوي تجربة فريدة وجميلة. ففي ذلك الوقت، كان مجتمعنا صغيرًا لا يتجاوز 3500 نسمة، ولم تكن لدينا سوى مدرسة واحدة. وكانت الحياة بسيطة إلى حد بعيد، إذ لم نتعرّف على البث التلفزيوني المباشر إلا بحلول عام 2000. في تلك الأجواء، عشت طفولة مفعمة بالمغامرات في الهواء الطلق، بين الاستمتاع بالمحيط وركوب الأمواج والتجديف، وقضاء الوقت بين أحضان الطبيعة.
كان الرقص جزءًا لا يتجزأ من حياتي منذ نعومة أظافري ووسيلتي الأقوى للتواصل مع تراثنا. فقد كرّست عائلتي حياتها للحفاظ على ثقافة رابا نوي، وفي ظل ذلك الجو تشكّلت هويتي.
ومن أحبّ التجارب إلى قلبي كانت المشاركة في الاحتفالات الشعبية، مثل مهرجان "تاباتي"، حين كنا نغني ونرقص ونحيي ذكرى أسلافنا. وما زالت تلك الذكريات والقيم حاضرة في حياتي وتغذي شغفي في كل ما أفعله.
شكّلت تجربة الانتقال إلى قطر قبل تسعة أعوام تحوّلًا عميقًا على المستويات الثقافية والجغرافية والعاطفية. فالقادم من جزيرة صغيرة مثل رابا نوي إلى مدينة الدوحة النابضة بالحياة والمتسارعة النمو، لا بد أن يخوض مزيجًا من الحماس والانبهار، إلى جانب التحديات في بعض الأوقات.
إلا أن أكثر ما ساعدني هو دعم زوجي، إلى جانب حبي للاستطلاع. فقد كنت متلهفة لاستكشاف ثقافة قطر وتقاليدها، والتعرف على المجتمع الدولي المتنوّع المُقيم هنا.
ومع مرور الوقت، وجدت إحساسًا بالانتماء من خلال عملي في التدريس وبفضل التواصل مع أشخاص من خلفيات متنوّعة ومشاركتي لإرثي الثقافي. كما أن انخراطي في المشاريع التي تعزّز الحوار بين الثقافات وتشجع الإبداع منحني شعورًا متزايدًا بالاستقرار.
عندما وصلتُ إلى قطر أول مرة، أذهلني التباين بين صحرائها الممتدة وعمارتها المعاصرة. بدا كل شيء جديدًا ومليئًا بالفرص. كما أدهشني إحساس الأمان وحفاوة الترحيب التي وجدتها في البلد، خاصةً لشخص ينحدر من خلفية ثقافية مختلفة تمامًا.
على مدى الأعوام التسعة الماضية، شهدتُ نموًا مذهلًا، ليس فقط على صعيد البنية التحتية، بل في المجالات الثقافية والإبداعية أيضًا. فقد أصبحت البلاد أكثر انفتاحًا على أشكال التعبير الفني والتعاون الدولي وتعزيز الشمولية.
كما جمعت فعاليات مثل بطولة كأس العالم FIFA لكرة القدم و إكسبو الدوحة الشعوب في دولة قطر، وفتحت أمام أشخاص مثلي فرصًا لمشاركة إرثنا الثقافي. كما لاحظت تزايد الوعي بقيمة التنوع، الأمر الذي سهّل بناء مجتمع متماسك وشعور عميق بالانتماء.
شكّلت تجربتي في إنتاج المحتوى لمنصة هولا قطر خلال كأس العالم FIFA قطر 2022™ فرصة استثنائية. فقد خضنا أجواء بطولة تاريخية، وتمحور دوري حول التواصل مع الجماهير الناطقة بالإسبانية من مختلف أنحاء العالم.
كوني مقيمة منذ فترة طويلة في قطر، كان من المدهش أن أرى الدوحة تتحول إلى احتفالية كبرى تزهو بالألوان والموسيقى والبهجة. كما أُتيحت لي فرصة تغطية فعاليات جماهيرية مثل "البانديراثوس"، حيث يلتقي المشجعون للغناء والهتاف بحماس كبير لفرقهم. وكان من الرائع جدًا أن أعيش أجواء كرة القدم بلغتي الأم وأشارك تلك اللحظات مع المجتمع.
كما أجريت مقابلات، وزرت مناطق المشجعين، وخضتُ تجربة لا تُنسى بالعمل في قلب الملاعب. وإلى جانب ذلك، استمتعت بحضور بعض المباريات كمشجعة برفقة عائلتي، ما أضفى على التجربة قيمة خاصة.
أعتبر نفسي محظوظة بأن أُتيح لي المجال لتغطية مواضيع متنوعة على منصة هولا قطر، من الأحداث الرياضية والمهرجانات الثقافية إلى اللقاءات مع السفراء وقادة المجتمعات. وأحب بشكل خاص تغطية الأحداث الرياضية، إذ تستضيف الدوحة بطولات عالمية المستوى، ولطالما كنت على ارتباط وثيق بعالم الرياضة. فهناك طاقة مذهلة تسود هذه الفعاليات أعشق التقاطها ومشاركتها مع جمهورنا.
إلى جانب ذلك، أجد شغفًا كبيرًا في تناول قضايا التعليم والثقافة. فدولة قطر تستضيف بانتظام منتديات عالمية تجمع فيها قادة الفكر من مختلف أنحاء العالم. وإن حضوري لهذه الفعاليات لا يبقيني على اطّلاع فحسب، بل يساعدني أيضًا على فهم السياق المحلي ورؤية قطر الأشمل للمستقبل بشكل أعمق، لا سيما الأهداف الواردة في رؤية قطر الوطنية 2030. فكل قصة هي فرصة للتعلّم وبناء جسور بين المجتمعات عبر محتوى هادف.
يسهم عملي على منصة هولا قطر في بناء جسر ثقافي بين المجتمع الناطق بالإسبانية والتقاليد القطرية المحلية. فمن خلال إنتاج محتوى بالإسبانية يسلّط الضوء على الفعاليات والعادات ومظاهر الحياة اليومية في قطر، نجعل الثقافة المحلية أقرب وأسهل فهمًا. كما يبرز هذا العمل كيف يمكن لمجتمعاتنا أن تتفاعل بروح الاحترام والفضول المتبادل.
ومن اللحظات التي لا تُنسى بالنسبة لي كانت خلال كأس العالم، أثناء التصوير في سوق واقف، حين شاهدت عددًا كبيرًا من جماهير أمريكا اللاتينية يرتدون الزي القطري التقليدي مثل الثوب والعباءة وحتى الغترة. ولم تكن هذه الأزياء مجرد زينة أو تنكّر، بل كانت تعبيرًا عن الاحترام والتقدير للبلد المُضيف.
ابتسم لهم الأهالي، والتقطوا صورًا معهم، بل وساعدوهم في تعديل ثيابهم. وكان توثيق تلك اللحظات العفوية بعدستي تجربة مؤثرة للغاية. لقد كانت مثالًا رائعًا على كيف يمكن للسرد والتجارب المشتركة أن تقرّب الناس بعضهم من بعض رغم اختلاف اللغات والحدود.
تُعدّ اللغة والثقافة من أقوى الوسائل التي تساعد على تعزيز الإحساس بالانتماء، خاصةً في بلد متنوع مثل قطر.
وبصفتي معلمة للغة الإسبانية، فقد شاهدت عن قرب الطريقة التي تفتح بها اللغة أبوابًا أمام الطلاب. فبالنسبة للعديد منهم، لا يقتصر تعلم الإسبانية على إتقان اللغة فحسب، بل يُعد وسيلة للتواصل مع عالم جديد، واستيعاب الفروقات الثقافية، والانخراط مع مجتمع أوسع.
وأما من منظور علم النفس، تؤدي الثقافة دورًا محوريًا في تشكيل الهوية وتعزيز الشعور بالانتماء. فعندما يتمكّن الأفراد من التفاعل مع ثقافة تتناغم مع هويتهم، أو يشعرون بالترحيب من قِبل ثقافة جديدة، يقلّ شعورهم بالعزلة.
تحتضن قطر جنسيات متعدّدة، ما يتيح للمجتمع الناطق بالإسبانية وللسكان المحليين فرصة التعلّم المتبادل. فمن خلال التفاعلات اليومية، سواء عبر الطعام أو الموسيقى أو التجارب المشتركة، يجد الناس أرضية مشتركة تبني لديهم إحساسًا بالانتماء. ويُشكّل هذا النوع من التواصل عنصرًا أساسيًا للحفاظ على الرفاه النفسي والقدرة على الازدهار في مجتمع متعدّد الثقافات.
عندما وصلنا إلى الدوحة في البداية، كانت أنشطتنا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالطبيعة المحيطة بنا. كنا نستمتع بالذهاب إلى الصحراء، واستكشاف أشجار المانغروف، واكتشاف المواقع الطبيعية.
كان البحر دائمًا وبلا شك وجهتنا المفضلة، خصوصًا شاطئ فويرط، حيث كنا نقضي أوقاتًا ممتعة ونسترخي كأسرة واحدة. كما أحببنا الطهو معًا، وإقامة حفلات الشواء، والخروج في نزهات عائلية برفقة الأصدقاء.
استمتعنا أيضًا باكتشاف المهرجانات المحلية، مثل سباقات قوارب المحامل التقليدية في كتارا، وزيارة المتاحف. ويُعد سوق واقف وجهة مفضلة أخرى لنا، فأجواءه النابض بالحياة وحرفه التقليدية وأطباقه الشهية تجعل كل زيارة له تجربة مميزة.
على الرغم من البُعد الكبير بين جزيرة رابا نوي والدوحة في أوجه عدة، فإنني وجدت روابط ثقافية مفاجئة سهّلت بدورها من عملية انتقالي. فكلا البلدين يولي أهمية كبرى للأسرة والمجتمع. ففي جزيرتي العائلة هي الركيزة الأساسية، وقد لمستُ القيم نفسها هنا في قطر.
ومن أوجه التشابه الأخرى الاحترام العميق للتقاليد والتراث. ففي جزيرة رابا نوي نحرص على صون ثقافة أجدادنا ونحتفي بها من خلال الرقص واللغة وممارسة الطقوس، وفي قطر شهدتُ الاحترام ذاته للتقاليد المحلية، سواء عبر حفظ العادات العربية أو إحياء المناسبات الثقافية المهمة.
ويشترك المكانان أيضًا في ارتباطهما العميق بالأرض والبحر. ففي الجزيرة يشكّل المحيط محور حياتنا، تمامًا كما يحتل البحر مكانة أساسية في ثقافة قطر واقتصادها. وسواء كان ذلك في سباقات القوارب التقليدية في رابا نوي أو سباقات المحامل في قطر، يظل حب البحر والتقاليد البحرية رابطًا يلامسني بعمق.
يُعد الحفاظ على ارتباطي بالجزيرة أثناء إقامتي في الدوحة أمر جوهري بالنسبة لي، وأحققه من خلال اتباع ممارسات يومية وتقاليد ثقافية. ومن أبرز الوسائل التي تبقيني على صلة بجذوري أنني أحرص على التحدث بلغتي الأم في المنزل مع أسرتي، لضمان انتقال لغتنا وعاداتنا إلى الجيل القادم.
ما زلت أمارس الرقص التقليدي الذي طالما كان جزءًا مهمًا من حياتي، فهو وسيلتي للتعبير عن ثقافتي والشعور بأصولي، حتى وأنا بعيدة عن وطني. كما أنني أحرص على طهو أطباق التقليدية من رابا نوي، مستخدمة المكونات المحلية لأستحضر نكهات الجزيرة إلى حياتنا اليومية.
وإن انخراطي في المجتمع المحلي ومشاركتي لثقافتي مع الآخرين، سواء عبر الفعاليات أو اللقاءات الصغيرة، يساعدني أيضًا على البقاء على تواصل مع جذوري. فهذه الممارسات تذكّرني بمنبعي وتبقي تقاليد رابا نوي حاضرة في حياة أسرتي.
يملؤني الحماس لما سيقدّمه العام الثقافي قطر والأرجنتين وتشيلي 2025 من فرص لبناء علاقات أعمق بين المجتمعين القطري واللاتيني. وآمل أن تسهم هذه المبادرة في فتح مساحات أوسع للتبادل الثقافي، يلتقي فيها الناس للتعرّف إلى تقاليد وفنون وقيم بعضهم البعض. وبالنسبة لي، أرى أن من المهم أن تحظى كل من الثقافتين القطرية واللاتينية بالتقدير والرؤية، ليس فقط ضمن سياقها الخاص، بل أيضًا من خلال منظور يقوم على الاحترام والفضول المتبادل.
ومن تطلعاتي أن نتمكّن من سد الفجوات الثقافية من خلال إقامة تجارب مشتركة مثل المعارض الفنية، والمهرجانات الموسيقية، وعروض الرقص، وفعاليات الطعام. فهذه وسائل عالمية للترابط تتجاوز حدود اللغة والمكان.
ومن خلال فعاليات مبادرة الأعوام الثقافية، أرى أننا نستطيع أيضًا إبراز القيم المشتركة التي تجمعنا، مثل أهمية العائلة والمجتمع والحفاظ على التراث. إنها فرصة مميزة لبناء علاقات دائمة وتعميق الفهم المتبادل بين ثقافاتنا، وتعزيز الروابط القائمة وتشجيع التعاون المستقبلي.
وعلى الصعيد الشخصي، فإن حلمي أن أرى أحد تمثيل "مواي" من جزيرة رابا نوي في متحف قطر الوطني، من صنع أسلافي، ليُمثّل ثقافتنا في الجانب الآخر من العالم. سيكون ذلك وسيلة رائعة لإبراز التراث الغني للجزيرة ومشاركته مع شعب قطر.
بالنسبة لي، الوطن هو المكان الذي أستطيع أن أعيش فيه مع عائلتي، وأبقى قريبة من جذوري وثقافتي، وفي الوقت ذاته أتعلم من ثقافات وأديان ومعتقدات الآخرين. الوطن هو القدرة على التعايش مع هذه الاختلافات، واستمداد القوة من التنوع الذي يحيط بي.
ليس بالضرورة أن يكون الوطن مكانًا ماديًا، بل هو إحساس نبنيه من خلال المعرفة والتجارب والروابط التي ننسجها مع عائلتنا ومجتمعنا. هو ذلك الإحساس بالانتماء الذي يتشكل من رعاية هويتنا والانفتاح في الوقت نفسه على العالم وقصصه المتعددة.
ويمكن القول إن الوطن هو حيث نجد الفهم والاحترام والسكينة مع ذواتنا. واليوم، قطر هي وطني، المكان الذي رسمت فيه روابط جديدة، واحتضنت تجارب فريدة، وما زلت أواصل فيه مسيرتي مع أسرتي.
تعرّفوا على أبرز الفعاليات المرتقبة في الدوحة في إطار العام الثقافي قطر والأرجنتين وتشيلي، و اطلعوا على المزيد من المقالات والمقابلات الشيّقة مع مبدعين ورواد أعمال وأفراد من الجاليتين التشيلية والأرجنتينية المقيمين في قطر.