الإرث الثقافي الغني للسينما الأرجنتينية
2025/09/09
الأعوام الثقافية
false
2025/09/09
نغوص خلال العام الثقافي قطر – الأرجنتين وتشيلي 2025 في عوالم السينما الأرجنتينية، مستكشفين تاريخها وأثرها الثقافي ومدى حضورها على الساحة العالمية. حيث سيحظى الجمهور في قطر بفرصة الاستمتاع بعروضٍ سينمائية تسلّط الضوء على أفضل ما قدّمته السينما الأرجنتينية، بدءًا من الروائع الكلاسيكية، ووصولًا إلى الأعمال الحديثة التي تعكس تنوع الأصوات المبدعة التي ساهمت في صياغة مجال رواية القصص السينمائية المعاصرة.
تقف السينما في الأرجنتين اليوم بوصفها ركيزةً أساسيةً في ثقافة السينما الأمريكية اللاتينية، منتجة أفلامًا روائية تحظى بإشادة النقاد ويصل صداها إلى مختلف أنحاء العالم. فما الذي يميّز السينما الأرجنتينية؟ وكيف تشكلت عبر الزمن؟ نستعرض في هذا المقال تاريخها، وأهم محطاتها، وأبرز أعلامها، والحضور الثقافي الدائم للسينما الأرجنتينية.
على مدار أكثر من مائة عام، عكست صناعة السينما الأرجنتينية التحولات الثقافية والصراعات السياسية في البلاد ومظاهر الحياة اليومية فيها. فمنذ بداياتها، لم تكن الأفلام مجرد وسيلة للترفيه، بل كانت أيضًا وسيلةً لتجسيد الهوية والتقاليد والوجه المتغير للمجتمع.
وقد أسهمت كل مرحلة، من فترة السينما الصامتة إلى العصر الذهبي مرورًا بالسينما الجديدة الثورية، في بناء سمعة الأرجنتين باعتبارها قوة بارزة في صناعة السينما بقارة أمريكا اللاتينية. ولتقدير تنوع السينما الأرجنتينية اليوم، من المفيد إعادة النظر في تلك المراحل المبكرة من مسيرتها وتطورها.
دخلت السينما إلى الأرجنتين عام 1896، أي بعد عام واحد فقط من تقديم الأخوين لوميير لاختراع الصور المتحركة في باريس. وسرعان ما جذبت العروض الأولى في بوينس آيرس فضول الجماهير. ويُعزى الفضل في إنتاج أول فيلم أرجنتيني بعنوان " لابنديرا أرخنتينا " - "العلم الأرجنتيني" (1897)، إلى الرائد الفرنسي-الأرجنتيني يوجين باي.
خلال حقبة السينما الصامتة، خاض صانعو الأفلام تجارب متنوعة في رواية القصص بصريًا. وشهدت فترة العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين إنتاج أفلام متحركة مثل "نوبليسا غاوتشا" – "شموخ الغاوتشو" (1915)، المستوحى من القصيدة الوطنية الأرجنتينية لمارتن فييرو، والتي تجسد حياة الريف وثقافة الغاوتشو. وقد ساهم خوسيه أ. فيريرا، الذي لُقّب لاحقًا بـ "أب السينما الأرجنتينية"، في رسم ملامح هذه الصناعة من خلال أفلام ميلودراما التي لامست وجدان المشاهدين في جميع أنحاء البلاد.
وبرغم شح الموارد وما شكلته الأفلام المستوردة من منافسة، تمكّن هؤلاء المخرجون الأوائل من تقديم قصص وطنية فريدة، واضعين بذلك أسس الإرث السينمائي الأرجنتيني.
ازدهر العصر الذهبي للسينما في الأرجنتين مع حلول ثلاثينيات القرن العشرين، متميزًا بإنتاج غزير وتقدير على الصعيد العالمي، وتجارب مبتكرة في الإضاءة وتزامن الصوت والأسلوب الفني.
فتح التقدم التكنولوجي الباب أمام المخرجين لصياغة قصص أكثر ثراءً وتعقيدًا، دامجين بين الموسيقى والحوار مع رواية القصص المرئية لأول مرة. كما ظهرت استوديوهات مثل لوميتون وأرخنتينا سونو فيلم، موفرةً فرصًا لمئات الممثلين والفنيين والمخرجين.
ومن بين أبرز تلك الأفلام: الملحمة الوطنية "لا غيرا غاوتشا" – "معركة الغاوتشو" (1942)، و"لوس مارتس، أوركيدياس"- "أيام الثلاثاء، وأزهار الأوركيد" (1941)، وهي الكوميديا الرومانسية التي أطلقت نجومية الممثلة ميرثا ليغراند. كما ساهمت الأفلام الموسيقية المستوحاة من التانغو، بمشاركة كارلوس غارديل، في تعزيز ارتباط السينما بالهوية الوطنية في تلك الحقبة.
وصلت الأفلام الأرجنتينية خلال هذه الفترة إلى جمهور واسع في جميع أرجاء أمريكا اللاتينية، مرسخةً بذلك مكانةً البلاد كقوة ثقافيةً إقليميةً. حيث أصبح نجومها رموزًا للثقافة الشعبية، بينما تناولت أفلامها موضوعات الصراعات الطبقية والرومانسية والأسئلة الأخلاقية، مُحاكيةً في كثير من الأحيان أسلوب العصر الذهبي لهوليوود.
شهدت فترة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين بزوغ فجر السينما الأرجنتينية الجديدة، وهي حركة تميزت بالمشاركة في المشهد السياسي والواقعية والأنماط غير التقليدية في رواية القصص التي عكست التوترات التي أحاطت بهذا الفصل من تاريخ الأرجنتين.
قاد المخرجان فرناندو سولاناس وأوكتافيو غيتينو ذلك المسار بأفلام مثل " لا أورا دي لوس أورنوس " – "ساعة الأفران" (1968)، وهو فيلم وثائقي مميّز يتناول قضايا الاستعمار الحديث والعنف السياسي.
كما اتجه صنّاع السينما آنذاك إلى التصوير في مواقع خارجية، والاستعانة بممثلين غير محترفين، وتقديم حكايات نابعة من الواقع، جاعلين من السينما أداة للنقد والتأمل. وفي خضم الانقلابات العسكرية وأشكال الرقابة والقمع، اتسمت كثير من الأعمال بنبرة مقاومة، ووجدت سبيلها للتداول إمّا سرًا أو من خلال قنوات بديلة.
مع مطلع القرن الحادي والعشرين، انفتح صناع الأفلام في الأرجنتين على آفاق التعاون العالمي والمنصات الرقمية، ما منحهم حضورًا واعترافًا عالميًا واسعًا بفضل سردياتهم المفعمة بالتفاصيل الدقيقة وانغماسهم في العوالم النفسية المعقّدة.
ومن أبرز النجاحات العالمية فيلم "السر في عيونهم" (2009) لخوان خوسيه كامبانيّا، و"حكايات برية" (2014) لداميان زيفرون، وفيلم "الأرجنتين، 1985" لسانتياغو ميتري (الذي رُشِح لجائزة الأوسكار عام 2023). كما أسهمت منصات البث الرقمي في اتساع نطاق الوصول والمشاهدة؛ إذ إن مشاريع مثل "ذي إيترنوت" – "الأزلي" (من إنتاج نتفليكس 2024) أعادت تسليط الضوء على الإرث الأدبي والسينمائي للأرجنتين.
أنتجت الأرجنتين أفلامًا لاقت صدىً واسعًا على كلا الصعيدين المحلي والدولي. وتبرز هذه الأفلام الأرجنتينية الشهيرة براعة السرد، وروح الابتكار الفني، وعمق الرؤية الثقافية التي تميز البلاد.
حاز فيلم لا إيستوريا أوفيسيال "التاريخ الرسمي" على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، ويستعرض إرث الديكتاتورية في الأرجنتين. وقد جعلت منه قوّة رسالته السياسية وعمقه العاطفي عملًا بارزًا في تاريخ السينما العالمية.
يقدّم هذا الفيلم المؤثر بعنوان المستنقع من إخراج لوكريسيا مارتيل تصويرًا واقعيًا لعائلة مضطربة في مناطق الأرجنتين الإقليمية. وبفضل حبكته المجزأة وطريقة تصويره السينمائي، اكتسبت مارتيل شهرة عالمية، ما مهد لبداية عهد جديد في صناعة الأفلام على يد مخرجين مبدعين.
يُعد هذا الفيلم التشويقي حول الجريمة، من إخراج خوان خوسيه كامبانيّا، واحدًا من أفضل الأفلام الأرجنتينية، حيث فاز بجائزة الأوسكار وأصبح ظاهرة سينمائية عالمية.
يقدم فيلم "حكايات برية" مجموعة من القصص القصيرة التي تحمل طابع الكوميديا السوداء، وتتناول موضوعات الانتقام والغصب وحالة العبثية في الحياة المعاصرة. وقد حقق الفيلم نجاحًا جماهيريًا في شباك التذاكر وترشّح لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، بسبب حبكته المتميزة ونقده الاجتماعي اللاذع.
كان للمخرجين الأرجنتينيين دور محوري في تشكيل السمعة العالمية لصناعة السينما في الأرجنتين.
اشتهرت مارتيل بروايتها المتقنة للقصص وبأسلوبها السينمائي الذي يستثير الحواس، لتصبح إحدى أبرز الأصوات في مشهد السينما المعاصرة. حيث تتناول في أعمالها موضوعات الطبقات والهوية والاحتقان الاجتماعي.
قدم كامبانيا مجموعة من أنجح الأفلام الأرجنتينية في العقدين الأخيرين، بفضل خبرته التي تمتد بين مجالي السينما والتلفزيون. إذ يمزج أسلوبه بين القدرة على جذب الجماهير والحفاظ على العمق الوجداني، وهو ما يتضح في أفلام ناجحة مثل "ابن العروس" و"السر في عيونهم".
هو مُبدع فيلم حكايات برية، الذي يوظّف في أفلامه من الكوميديا السوداء والنقد الاجتماعي. اشتُهر زيفرون بنصوصه اللاذعة وبقدرته على المزج بين الأنماط السينمائية، مُستخدمًا التشويق والمفارقات العبثية كأداتين لتوجيه النقد للمجتمع المعاصر.
تُسهم أصوات شابة مثل مارتين رَيْختمان، وبنيامين نيشتات، وآنا كاتس في إعادة تشكيل ملامح السينما الأرجنتينية بطرق مبتكرة تجمع بين الأساليب الحديثة والرؤى النقدية للمجتمع والسياسة، ما يرسخ مكانة الأرجنتين في صدارة المشهد السينمائي في أميركا اللاتينية.
فيما يلي مجموعة من أكثر الممثلين والممثلات تأثيرًا في تاريخ السينما الأرجنتينية، والذين أسهموا في رسم ملامحها وما زالوا يواصلون تشكيل فضاءاتها الحيّة والنابضة بالتجدد:
تُعَدّ من أشهر الممثلات الأرجنتينيات، وقد رُشِحت لنيل جائزة الأوسكار. لمع نجمها عالميًا بفضل دورها في فيلم "القصة الرسمية" عام (1985)، وهو الفيلم الذي منح الأرجنتين أول جائزة أوسكار في تاريخها. ولا تزال مصدرًا لإلهام أجيال من الممثلين والممثلات من خلال أعمالها السينمائية والمسرحية.
يُعتبر الممثل ريكاردو دارين من أحب وأشهر الوجوه في السينما الأرجنتينية، حيث يشتهر بجاذبيته وبحضوره اللافت على الشاشة. وقد أصبح أسمه معروفًا على الصعيد العالمي من خلال أدائه المميز في أفلام مثل "السر في عيونهم" و"حكايات برية".
تُعدّ إيريكا ريفاس ممثلة أرجنتينية متعددة المواهب، فهي توفق بين حضورها عبر أعمالها المسرحية والسينمائية والتلفزيونية. وقد اشتهرت تحديدًا بدورها في فيلم "حكايات برية"، حيث أكسبها أداؤها المميّز والمشحون بالعاطفة العديد من الجوائز.
لقد ساهمت ممثلات مثل سيسيليا روث وممثلون مثل ليوناردو سباراليا في ترسيخ مكانة وسمعة الأرجنتين كمنبع للمواهب السينمائية عالمية المستوى.
تؤدي مهرجانات السينما دورًا محوريًا في تعزيز حضور السينما الأرجنتينية على الصعيدين المحلي والدولي. فهي توفّر منصة لعرض المواهب الجديدة، وتتيح فرصًا للتواصل والتعاون، كما تربط المجتمع السينمائي في الأرجنتين بمشهد صناعة السينما على المستوى الدولي.
يُعتبر مهرجان مار دل بلاتا السينمائي الدولي الحدث الأبرز الذي يزين جدول فعاليات السينما الأرجنتينية. فمنذ انطلاقه عام 1954، يستقطب المهرجان صانعي الأفلام من مختلف أنحاء العالم، ويقدّم فضاءً لعرض أفضل ما أنتجته السينما المحلية والدولية. كما يُعد المهرجان السينمائي الوحيد المصنف ضمن الفئة "أ" في أمريكا اللاتينية، والمعتمد رسميًا من الاتحاد الدولي لجمعيات منتجي الأفلام السينمائية.
يُمثّل مهرجان بوينس آيرس الدولي أحد أهم المهرجانات للأفلام المستقلة في أمريكا اللاتينية، مقدمًا مساحةً داعمةً للأصوات الناشئة والأعمال المبتكرة. ويشتهر المهرجان بأجوائه المفهمة بالحيوية وبرامجه الطموحة، ما يجعله وجهة لمحبي السينما والنقاد على حد سواء.
يحتفي هذا المهرجان السنوي الذي يُقام في شهر أكتوبر بالحكايات من مختلف أنحاء الإقليم ويطرح وجهات النظر الجديدة، الأمر الذي جعله يكتسب أهمية وشهرة متزايدة نظرًا لتركيزه على دعم صانعي الأفلام المحليين وتشجيع التعاون فيما بينهم.
يُعد مهرجان قرطبة الدولي للرسوم المتحركة – أنيما أعرق مهرجان للرسوم المتحركة في الأرجنتين. ويتضمن هذا المهرجان الذي يُقام كل سنتين برامج ذات طابع تنافسي وورشات عمل، إلى جانب تنظيمه لمؤتمر أكاديمي يجمع الخبراء والطلاب في مجال الرسوم المتحركة.
في إطار العام الثقافي قطر – الأرجنتين وتشيلي 2025، نُظّمت سلسلة من الفعاليات الخاصة بالتعاون مع مؤسسة الدوحة للأفلام، لتقدم حكايات أمريكا اللاتينية إلى أشرفت على إعدادها في قطر.
وفي مايو 2025، استضافت المؤسسة برنامج "مشاهد اجتماعية"، الذي عُرضت خلاله أحدث الأفلام من الأرجنتين وتشيلي. حيث أتاحت هذه العروض السينمائية المجانية - والتي أشرفت على إعداداها فيوليتا بافا - فضاءً للتأمل في قضايا الذاكرة والهوية والعدالة والصمود، ما يعمق الحوار والتقدير المتبادل بين الثقافات.
يخصص مهرجان الدوحة السينمائي في الفترة 20 حتى 28 نوفمبر، مساحة لتسليط الضوء على صُنّاع الأفلام الصاعدين من الأرجنتين وتشيلي، ضمن برنامج بعنوان "صُنع في الأرجنتين/تشيلي". حيث يشارك حكّام شباب من كلا البلدين في برنامج تبادل أعضاء لجنة الحكام الشباب في مهرجان أجيال السينمائي، وذلك بهدف تشجيع الحوار بين الثقافات من خلال السينما. ويجسّد البرنامج تنوع وتطور السرد السينمائي في قطر، كذلك يمنح الجمهور في الدوحة فرصة لاستكشاف أشكال التعاون الإبداعي المشترك بين أميركا اللاتينية والعالم العربي.
منذ بداياتها مع السينما الصامتة، ووصولًا إلى نجاحاتها الراهنة على الصعيد العالمي، تشكّل السينما الأرجنتينية مرآة لتراث ثقافي نابض بالحياة، يلقى صداه لدى الجماهير في مختلف أنحاء العالم.
ومن خلال فعاليات العام الثقافي قطر – الأرجنتين وتشيلي 2025، تفتح هذه الأعمال السينمائية نوافذ للتواصل عبر الثقافات أمام المشاهدين في قطر وخارجها، بما يحفّز التأمل ويُلهم أجيالًا جديدة من عشاق السينما.
وإذ نتطلع إلى ما هو قادم، فإن عشّاق السينما على موعد مع فعاليات مُرتقبة داخل الدوحة وخارجها خلال العام الثقافي قطر – الأرجنتين وتشيلي 2025.