كليلة ودمنة - حكايات خالدة تربط قطر بأمريكا اللاتينية
2025/07/28
الأعوام الثقافية
false
2025/07/28
وليس كتاب كليلة ودمنة مجرد مجموعة من القصص، بل هو تحفة فنية في فن سرد القصص، يستخدم الحيوانات لنقل الحكمة حول القيادة، والأخلاق، والسلوك البشري.
وقد استمد الكتاب اسمه من شخصيتيه الحيوانيتين الرئيسيتين، كليلة ودمنة، وهما زوجان من ابن آوى تدور بينهما حوارات ماكرة تُشكّل الإطار الذي تُنسج من خلاله العديد من الحكايات الأخلاقية في النص.
وفي إطار فعاليات العام الثقافي قطر - الأرجنتين وتشيلي 2025، يتم الاحتفاء بهذا الكلاسيكي الخالد من خلال معرض جديد وجلسات لسرد القصص وبرامج تعليمية، تسلط الضوء على قوة الأدب في ربط المجتمعات المتنوعة عبر القارات والأجيال.
لكتاب "كليلة ودمنة" رحلةٌ مميزة بدأت في الهند القديمة، حيث ظهر أقدم تجسيد له باللغة السنسكريتية ضمن عمل يُعرف باسم "بانتشاتانترا"، وهو دليل عملي يهدف إلى تعليم الحكمة وفنون الحكم والسياسة للملوك والأمراء.
وانتقلت هذه الحكايات من الهند إلى فارس، حيث تُرجمت إلى الفارسية الوسطى خلال العصر الساساني. إلا أن الترجمة العربية التي وضعها الأديب والفقيه الفارسي ابن المقفّع في القرن الثامن الميلادي، هي التي منحت هذا العمل شكله العربي الدائم وفتحت له آفاق الانتشار العالمي.
ومنذ ذلك الحين، أصبح عمل ابن المقفع من أكثر الكتب تأثيرًا في الأدب العربي الكلاسيكي، وتحول إلى وسيلة لنشر الفلسفات الشرقية في جميع أنحاء العالم الإسلامي وخارجه. وقد شكّلت نسخته من "كليلة ودمنة" نصًا أساسيًا في الأدب العربي، وانتشرت لاحقًا إلى أوروبا وأماكن أخرى من العالم.
ويمكن مقارنة بنية وأسلوب كليلة ودمنة أيضًا بحكايات إيسوب الشهيرة التي يعود تاريخها إلى اليونان القديمة، وهو ما يُبرز مدى الترابط العميق في فنون السرد القصصي لدى البشر عبر الثقافات والحضارات.
للوهلة الأولى، قد تبدو كليلة ودمنة سلسلة من الحكايات البسيطة والجذابة عن حيوانات ناطقة، لكن عبقرية هذا العمل تكمن في بنيته المتداخلة التي تحتوي على حكايات داخل الحكايات، وما تحمله من دروس حياتية عميقة مغلّفة بالسرد الرمزي.
صُمّم كتاب كليلة ودمنة لتعليم حكّام المستقبل، ويتناول موضوعات مثل الدبلوماسية، والعدالة، والصداقة، والخيانة. وقد استُخدم هذا العمل لترسيخ التفكير الأخلاقي، والحكم الرشيد، والقيم الاجتماعية.
ومن خلال بنية تعتمد على القصص الإطارية أو الحكايات داخل الحكايات، يستخدم الكتاب الأمثال لطرح أفكار معقّدة بطريقة مبسطة وسهلة الفهم. وغالبًا ما تُوضَع الشخصيات في مواقف أخلاقية غامضة، ما يدفع القرّاء للتأمل في العواقب والدوافع والتحديات الأخلاقية التي تواجهها.
يضم كليلة ودمنة عشرات الحكايات المتداخلة التي صمدت عبر الزمن، لكن بعضًا منها يبرز بشكل خاص لما يتمتع به من شعبية دائمة وغنى سردي. إليك لمحة سريعة عن ثلاث حكايات معروفة:
من أكثر القصص المؤثرة والمفيدة في مجموعة كليلة ودمنة، وتدور حول غزال وسلحفاة وغراب وفأر يُشكلون تحالفًا غير متوقع، ويُظهرون كيف يُمكن للوحدة والصداقة أن تتغلب حتى على أشد التهديدات. فعندما يقع الغزال في شباك أحد الصيادين، يتعاون الأصدقاء الثلاثة الآخرون في وضع خطة إنقاذ ذكية، حيث يؤدي كلٌ منهم دورًا حاسمًا بناءً على نقاط قوته الفريدة. وتُذكرنا هذه القصة بأن التعاون رغم الاختلافات يُمكن أن يكون قوة دافعة للخير والتغلب على الشدائد.
في هذه الحكاية التحذيرية، يقوم الثعلب بخداع الغراب من خلال المديح والثناء، ليُغريه بالغناء، مما يؤدي إلى سقوط قطعة الطعام من منقاره. إنها قصة موجزة لكنها تحمل رسالة قوية وهي: احذروا من تأثير الإطراء. وتظهر نسخ مشابهة من هذه الحكاية في حكايات إيسوب أيضًا، مما يدل على الجذور المشتركة لهذه الدروس الأخلاقية في مختلف الثقافات.
في هذه الحكاية الشعبية، يتفوق سلطعون ذكي على طائر كركي ماكر كان يخدع الأسماك ويتغذى عليها تحت ستار مساعدتها ونقلها إلى مكان أكثر أمانًا. وعندما حاول الكركي استخدام نفس الحيلة السلطعون، كشف السلطعون خدعته وتمكن من القضاء على الكركي في النهاية. وتبرز القصة أهمية الشك الواعي والتفكير النقدي، وهي رسالة لا تزال تحتفظ بأهميتها حتى يومنا هذا.
وعندما يتأمل القرّاء في القيم الأخلاقية المستخلصة من كتاب كليلة ودمنة، يكتشفون أن كل حكاية تدعو إلى التفكير العميق في مفاهيم اتخاذ القرارات الأخلاقية وفن القيادة.
يتجاوز تأثير كتاب "كليلة ودمنة" حدود العالم العربي، حيث تُرجم إلى أكثر من 50 لغة، وانتشر على نطاق واسع في أوروبا خلال العصور الوسطى. كما كان من أوائل النصوص العربية التي تُرجمت إلى اللغة اللاتينية. وقد أثر أسلوب السرد الإطاري الذي يميز الكتاب على بنى السرد القصصي في الأدبين الشرقي والغربي على حد سواء، وأسهم في تطوّر تقاليد السرد المعقّد في الأدب العالمي.
ويُقال إن هذه الحكايات الخرافية قد أثرت على أعمال جان دو لافونتين، الذي تعكس حكاياته الحيوانية المكتوبة باللغة الفرنسية العديد من القصص الواردة في "كليلة ودمنة". وإلى جانب الأدب، أثرت هذه القصص على مناهج التربية والفلسفة السياسية، وحتى على الأعمال الفنية عبر القرون والثقافات المختلفة.
في عام 2025، سيتصدر هذا العمل الأيقوني المشهد ضمن فعاليات العام الثقافي قطر - الأرجنتين وتشيلي، من خلال فعاليتيْن رئيسيتيْن تُعيدان إحياء هذا الكنز الأدبي الخالد للأجيال الجديدة.
بالشراكة مع برنامج الأعوام الثقافية، تُقدّم مبادرة "قطر تقرأ"، التابعة لمكتبة قطر الوطنية، بكل فخر معرض "كليلة ودمنة" الفني. ويُقام المعرض في مكتبة ريكاردو غويرالديس بالأرجنتين، ويعرض اثني عشر عملاً فنيًا أصيلاً للفنانة والكاتبة القطرية وضحى العذبة.
وتتميز رسومات وضحى الغنية، التي رسمت وفق التقاليد الدقيقة للرسم المصغر الإسلامي، بروح الدعابة وعمق الحكمة الكامنة في الحكايات الأصلية مع ربطها بذائقة بصرية معاصرة تخاطب جمهور اليوم.
وتُعرض هذه الأعمال الفنية الاثنتي عشرة أيضًا في نسخة إسبانية من كتاب "كليلة ودمنة"، من تأليف ورسوم وضحى العذبة، وصادرة عن دار جامعة حمد بن خليفة للنشر. ويُوزّع الكتاب على الأطفال في مختلف أنحاء الأرجنتين، ليُشكّل رابطًا ثقافيًا هادفًا بين العالم العربي وأمريكا اللاتينية، ويُعرّف الأجيال الجديدة على الرسائل الخالدة لهذا العمل الأدبي العريق.
سيُقام برنامج مكمّل في المكتبة الوطنية لجمهورية الأرجنتين، ويتضمن هذا الحدث جلسة لسرد القصص باللغة الإسبانية، إلى جانب أنشطة يدوية تفاعلية للأطفال، وتوزيع حقائب قراءة مستوحاة من كتاب "كليلة ودمنة".
من خلال الاحتفال بكتاب كليلة ودمنة عبر الفنون البصرية ورواية القصص والتعاون الدولي، تواصل مبادرة الأعوام الثقافية تعزيز التفاهم المتبادل والتبادل الإبداعي بين الثقافات.
ويسلط برنامج هذا العام الضوء على الأهمية المتواصلة لكتاب يعود تاريخه إلى قرون مضت، موضحًا كيف أن الحكايات الخرافية التي حُكيت لأول مرة في بلاطات الملوك في الهند وأُعيد تصورها في العصر الذهبي الإسلامي لا تزال تجد صدى عميقًا في وجدان القراء حتى يومنا هذا.
اكتشف المزيد من الفعاليات القادمة في قطر وخارجها.